د . عبدالله السويجي
تدل مؤشرات السوق العقارية في الإمارات على أن الإيجارات ارتفعت بشكل جنوني وغير مبرر في الفترة الأخيرة، وتحديداً خلال العامين الماضيين، وبعضها لم يراعِ معايير كثيرة من بينها مادية وإنسانية وأخلاقية، حيث ضرب الملاك عرض الحائط بظروف غالبية المستأجرين، ولم ينظروا إلى الأمر إلا من زاوية ربحية، على الرغم من قدم العديد من البنايات، ووجود شريحة من المستأجرين في البنايات ذاتها منذ 15 عاماً أو 20 عاماً، وهذه المدة لم تشفع للمستأجر الذي صار يشعر بأن الشقة أو الفيلا بيته الخاص، ناهيك من عدم التفات الملاك إلى هذه الناحية الحميمية التي تربط الإنسان بالمكان على مدى الزمن .
وقد كشفت تقارير صحفية بتاريخ 21 ديسمبر الجاري عن زيادة بنحو 35% في أسعار القيم الإيجارية، لتصل نسبة زيادة قيمة الإيجار الإجمالية خلال عامين إلى أكثر من 50%، بعد قرار إلغاء سقف الزيادة الإيجارية . ونقلت عن مستأجرين مطالبتهم بإعادة تحديد سقف للزيادات الإيجارية، وعدم السماح بزيادات كل عام أو عامين متتاليين، في حالة حدوث زيادات تفوق ال5% في العام السابق، واصفين الزيادات بأنها غير مبررة، خصوصاً في ظل عدم زيادة الرواتب .
القضية ليست جديدة، لأنها بدأت في اللحظة التي تم فيها إلغاء ال5% التي كانت معتمدة من قبل المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، ومنذ ذلك الوقت يتلقى آلاف المستأجرين يومياً إخطارات بزيادات جنونية تتراوح بين 20% و100%، ولسان حال الملاك: من لا يعجبه فليرحل، وهو منطق لم يعتده السكان في الإمارات .
وسائل الإعلام، وخاصة المقروءة منها، انتبهت لهذه القضية التي تحولت مع مرور الوقت إلى أزمة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية حقيقية، وقابلت العديد من المستأجرين المتضررين، ورجال القانون .
ففي التاسع من شهر فبراير/شباط الماضي، نُشرت آراء عدد من رجال القانون، ومن بينهم القاضي محمد سعيد محمد مطر الزعابي، رئيس محكمة أبوظبي الاتحادية الابتدائية، حيث أكد أن (الزيادة لا غبار عليها، لكن لابد أن تكون معقولة، والمرفوض هو الجشع والاستغلال وانتهاز الفرص، ولابد أن يكون هدف الجميع توفير البيئة الآمنة والمستقرة لأبوظبي . . ولابد من تقنين الزيادة في القيمة الإيجارية) . أما محمد ياسين منصور، المستشار القانوني لغرفة تجارة وصناعة أبوظبي، فقد أقر بوجود زيادة في شكاوى المستأجرين من ارتفاع الإيجارات بشكل مغالى فيه خلال الفترة القليلة الماضية، وقال: (لدي حالات لارتفاع كبير في إيجارات سكنية وتجارية بنسب كبيرة، منها رفع إيجار وحدة سكنية من 85 ألف درهم إلى 160 ألف درهم، وحالة بزيادة إيجار تجاري بنسبة 32%، والخوف أن نعود إلى ما قبل عام ،2009 حيث ارتفعت الإيجارات بشكل كبير . .) .
وهناك تأثيرات سلبية يراها رجال القانون على الاقتصاد والمجتمع والاستقرار الأسري، وذكر المحامي طارق السركال، أن زيادة الإيجارات السكنية والتجارية ستؤثر سلباً على حركة الاستثمار في أبوظبي، وعلى الحياة المعيشية في الإمارة، لأن التاجر الذي استأجر محلاً بقيمة إيجارية مرتفعة، سيضطر إلى رفع أسعار السلع التي يبيعها حتى يستطيع تحقيق دخل أكبر، وبالتالي سترتفع تكلفة المعيشة وتتفاقم مرة أخرى ظاهرة التضخم . إضافة إلى النتائج السلبية على المستوى النفسي والاجتماعي للأسرة المقيمة في أبوظبي، موضحاً أن عودة الإيجارات إلى مستويات كبيرة من الارتفاع، كما جرى عامي 2024 و2009 سيدفع الموظفين العاملين في القطاع الحكومي والخاص، إلى تسفير أسرهم إلى بلدانهم وتأجير سكن للعزاب، وبالتالي ستتأثر الحركة الاقتصادية في الإمارة بشكل كبير . وأبدى المحامي السركال دهشته من زيادة إيجار مكتب من 90 ألف درهم إلى 180 ألف درهم .
ووصفت مقالات صحفية أخرى كيف أن عدداً من المستأجرين في أبوظبي، استقبلوا رسائل من ملاك ومسؤولي شركات عقارية، تخطرهم بزيادة قيمة إيجار وحداتهم السكنية بنسب مرتفعة تراوحت بين 10 و50%، فيما فوجئ آخرون بخطابات تم تعليقها في مداخل البنايات السكنية تخطر جميع المستأجرين بزيادة الايجار إلى قيم إيجارية موحدة وهذا ما دفع الكثيرين لإخلاء وحداتهم السكنية للبحث عن بدائل، ما بات يهدد استقرار الأسر المقيمة بالعاصمة ويسهم في زيادة معدلات التضخم .
القاضي محمد سعيد محمد مطر الزعابي، رئيس محكمة أبوظبي الاتحادية الابتدائية اقترح بعض الحلول، كأن تكون العقود الإيجارية لمدة ثلاث سنوات بقيمة إيجارية ثابتة، بحيث يتفق المالك والمستأجر عليها، وبعد فترة السنوات الثلاث يتفق المالك والمستأجر على فترة أخرى لمدة سنتين بقيمة إيجارية أخرى، وهذا الاقتراح سيؤدي إلى استقرار السوق وأحوال الملاك، وعلينا، كما يقول رئيس المحكمة، أن "لا نترك الزيادة تتم سنوياً حتى لا يستغلها المؤجرون، لأننا بحاجة إلى استقرار المجتمع، وإلى معايير وضوابط" .
يقول منطق الملاك إن العقد شريعة المتعاقدين، والمالك حر في فرض الزيادة التي يريد، والمستأجر حر في أن يبقى أو يغادر . وهو منطق أقرب إلى التعامل بالربا، الذي يستغل حاجة الناس إلى السكن والاستقرار . والمشرّع حين أقرّ مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين)، وضع في الحسبان أن أحد الطرفين قد يوافق مقهوراً ومضطراً على العقد، لحاجته أو لقسوة ظروفه، أو ظروف بلاده القادم منها، وهنا فإن الاتفاق لا يكون ودياً، وإنما تفرضه قوة طرف وضعف طرف آخر، واستغلال من طرف لآخر إلى درجة ترقى إلى الابتزاز: (إما أن تدفع أو تغادر)، وهو سلوك تجاري صحيح، وقانوني صحيح، إلا أنه يفتقر لروح القانون، ويفتقر للروح الإنسانية .
ويتذرع بعض الملاك بالظلم الذي وقع عليهم طيلة الفترة الماضية! وهو كلام خطير جداً، فمن شرّع زيادة ال5%، يعلم تمام العلم مصلحة البلاد والعباد، ودرس الوضع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني دراسة دقيقة ومتأنية، ولا يمكن أن يكون قد ظلمهم، لأنه من منحهم الأرض والقرض والتسهيلات . ومن جهة أخرى، فإن الكثير من البنايات التي يطلب مالكوها الزيادة قديمة، وعمرها يتراوح بين 15 عاماً و20 عاماً، وكانت مواد البناء أرخص وأجور العمالة أقل، والزيادة التي فرضها الملاك بعد مضي عشرين عاماً على بناء العقارات لا تستند إلى سبب اقتصادي باستثناء المزيد من الربح، والاحتكام إلى لغة السوق العقاري، المبني على العرض والطلب، وحتى هذا السوق يأخذ في الحسبان الاستقرار المجتمعي والعاطفي للسكان . وهناك نقطة أخلاقية أساسية في هذا الشأن، وهو أن مستأجراً يجلس في بيت مالك طوال 15 أو عشرين عاماً، لا بد أن يعامل معاملة خاصة إنسانياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً، خاصة وأنه وافق على الزيادات الكثيرة التي فرضها المالك من دون أي اعتبار، إلا إذا كان المستأجر مجرد رقم يغادر ويسكن دون الإحساس بمشاكله ومعاناته، فإذا صدق هذا الاحتمال، نكون قد وصلنا إلى حالة تتشكل فيها طبقة رأسمالية تشبه الرأسمالية الغربية التي لا تحتكم إلى القيم أو الأخلاق، وإنما إلى منطق السوق .
إننا نؤيد رجال القانون في دقهم لجرس الإنذار، فهذه الزيادات ستحدث قلقاً نفسياً وعدم استقرار أسري لآلاف الأسر، وستزيد عدد شريحة العزاب في المجتمع، بعد أن يبادر الأزواج إلى تسفير زوجاتهم وأبنائهم، وهذا ما سيؤثر على حركة الشراء والمؤسسات التجارية والخدمية كافة، وسيعيد حالة عانت منها العقارات والمجتمع في السابق، حين كان يسكن الفيلا الواحدة عشر عائلات، والشقة الواحدة عشرة أشخاص، وهذا الواقع سينتج عنه مشكلات لا تحصى ولا تعد .
حين أمر أصحاب القرار بتعويم سوق الإيجارات والعقارات، فقد راهنوا على أخلاقيات الملاك ووطنيتهم وحرصهم على الاستقرار السكاني، ولا شك أنهم غير موافقين على الزيادات المجنونة التي فرضها الملاك .
إنه ونتيجة لارتفاع الأسعار غير المبرر، ازدحمت لجان فض المنازعات العقارية بالمراجعين، كما غصت المحاكم بالقضايا، وهذا ما سيعوق عمل القضاء، ولهذا، فإن مراجعة قانون الإيجارات ضرورة اجتماعية ووطنية واقتصادية، ومن دونها، ستعاني شريحة كبيرة من الناس من جشع الملاك . وليس أمامنا هنا سوى القول: من ستر على مسلم ستره الله يوم القيامة . والستر واجب وليس خياراً . والله من وراء القصد .
هكذا اراها
جنون الملاك و إرتفاع الايجارات فجنون المستأجرين