لم تحجزه أعماله الكثيرة، ولا مهامه الإدارية الملحة في شركته الخاصة، ولم يمنعه الإعفاء الرسمي الذي بحوزته من الالتحاق بالتدريب العسكري في الخدمة الوطنية، كونه وحيد أمه، ولم يشغل باله بالتسويف ولا بالتأجيل، بل على النقيض تماماً؛ حزم الشاب خالد النعيمي أمره، واتجه إلى أرض التدريب في معسكر «ديبوت» في مدينة العين، ضمن الدفعة الثانية من الشباب المنتسبين للخدمة الوطنية، رغم إعفائه منها رسمياً.
النعيمي أكد لـ «البيان» أن مشاعره الوطنية تغلبت على شعوره الشخصي، فلبى نداء الوطن، وانتقل إلى ميادين الخدمة العسكرية، متجرداً من كل ملامح الحياة المدنية التي عايشها لقرابة ثلاثين عاماً في إدارة مشاريعه الخاصة، وتنمية طموحه المهني الذي أخلص له لسنوات، ضارباً بذلك خير مثال عن أبناء الإمارات، لاسيما وهو يحمل شهادة رسمية من المحكمة، تعفيه من الخدمة الوطنية لكونه وحيد الأم.
وسائل التواصل
حادثة وفاة منتسب في معسكر التدريب ضمن الدفعة الأولى من الخدمة الوطنية، ألحّت على خالد لأن يلتحق في صفوف أبناء الوطن في ميادين التدريب، موضحاً أن حالة الارتباك النسبي بين الشباب، و«القيل والقال» عبر وسائل التواصل، وخوف بعض الأمهات على أبنائهن، كل هذه الأمور دفعته لأن يكون مجنداً منتسباً للخدمة الوطنية في الدفعة الثانية، وبالفعل نجح في ذلك، ودخل معترك حياة أخرى لم يكن يتوقعها أبداً، بما توفره من أيام لا تخلو من المتعة والسعادة والإنجاز، رغم مشقة الالتزام بالتدريب.
منذ التحاقه بالتدريب في 20 ديسمبر 2024، على أن يستمر تسعة أشهر كاملة، غاب خالد عن أسرته وانقطع عن أعماله 21 يوماً متوالية، ليرجع بعدها في إجازة ليومين قبل العودة إلى التدريب، وسيستمر على هذا المنوال حتى ينهي واجبه في الخدمة الوطنية، مشيراً إلى أن قناعته في الالتحاق بالخدمة الوطنية رغم الإعفاء الذي بحوزته، لم تفاجئ والديه، اللذين أبديا قبولاً لرأي خالد وإن بدا عليهما إحساس افتقاد حس ابنهما في البيت.
ولادة رجل
9 شهور هي مدة حمل الأم حتى يكتمل نمو الجنين في بطنها ليخرج وليداً يشق طريقه في الحياة، وهي الفترة الواجبة على الملتحقين بالخدمة الوطنية لإنهاء واجبهم الوطني، وكأنها شهور «ولادة رجل وجندي» في حضن أمه «الإمارات»، هكذا عبّر عنها النعيمي، موضحاً أن أجواء المعسكر تنفرد بمسميات حصرية كثيرة، وفيها من الملامح والممارسات والطقوس اليومية الممتعة والشاقة، والتي لا تقود إلا إلى تعبير وحيد «مصنع الرجال».
بعد 21 يوماً من الخدمة الوطنية، توقفنا مع النعيمي العائد بمشاعره وبقوة نحو البقاء بين «ربعه» وأهله وأصدقائه وأسرته من منتسبي التجنيد في معسكرات التدريب، مفصّلاً لنا أيامه الأولى في الخدمة حين قال: مجرد دخولي أبواب المعسكر، نزعت ثياب المدنية شكلاً ومضموناً، وارتديت العسكرية بشوق وإقدام، لأمتّع نفسي بشعور الوفاء لتلبية قرار القيادة ممثلة بصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولسان حاله كما المئات من رفاقه في المعسكر: «الله.. الوطن.. رئيس الدولة».
شباب الوطن
وعن تفاصيل الحياة العسكرية أوضح النعيمي، أن الخدمة الوطنية تختصر التجارب والمعارف في مواقف خاطفة، وفيها تعلمنا معنى الأخوة والتقارب، والصبر والالتزام بالوقت، فالدقيقة العسكرية لها تأثير كبير جداً، والأهم فهمنا معنى كلمة «وطن» بشكل أبلغ.
وأضاف خالد: في المعسكر خليط من شباب الإمارات من مناطق الدولة كافة، فيه شخصيات مرحة ونماذج مثقفة، وقيادات شبابية واعدة، وشيوخ وشخصيات مجتمعية مرموقة، وفيه كل ما في الإمارات من جمال ومتعة وطموح وإنجاز، مؤكداً أنه خلال 21 يوماً من التدريب والالتزام، وصل إلى إحساس الكمال من الرضا والقناعة، وفهم معنى وقيمة كل شيء في الحياة، من رفاهية وراحة واكتفاء، ما أفضى إلى حالة من الرقي والعلا في النفس، وخير دليل على ذلك، حالة الاشتياق الصادقة التي تنتاب خالد للعودة إلى الحياة العسكرية، وإلى مجتمع الأصدقاء بل الأشقاء، وذلك أكثر ما يفتقده النعيمي حين يجد نفسه في إجازة ليومين بعد أسابيع الانتظام في المعسكر.
يوم في التدريب
وتطرق النعيمي إلى واقع الخدمة الوطنية والحياة العسكرية، فيومه يبدأ عند الرابعة فجراً ويستمر حتى العاشرة مساءً، ولا سهر بعد هذا الوقت، فيما يحظى المنتسبون بفرصة استثنائية بعد صلاة العشاء في التجمع وسرد القصص والحكايات والمواقف التي صادفت الجميع، وجدول حياتهم منتظم في صلاة الجماعة والنوم والاستيقاظ والطعام الصحي الموافق لاحتياجات الجسم والجهد البدني وحسب.
امتناناً لهذا الواقع، حرص خالد النعيمي على تكرار جمل الشكر والثناء لقيادة الإمارات وشيوخها، على قرار الخدمة الوطنية الصائب، والرؤية الثاقبة التي لها «بعد سابع» على حد تعبيره، معتبراً أن الخدمة الوطنية، مكرمة أخرى لأبناء الإمارات، يتلذذ بمتعتها كل من يحالفه الحظ في أن يحجز لنفسه رقماً متقدماً في سجل هذه التجربة الاستثنائية والنفيسة.
رأس السنة
تصادف وجود خالد النعيمي في ميدان التدريب، والالتزام في الخدمة الوطنية، مع احتفال العالم بليلة رأس السنة2020، وهذه المناسبة تفوته للمرة الأولى في حياته، حين وجد نفسه في عزلة وطنية، بعيداً عن الاحتفال بأجواء دبي الحصرية.
كانت ليلة مميزة وفريدة لا تنسى كما يقول، حين وقف محتفلاً في حب الوطن، وسط عائلة جديدة، وفي عالم آخر غير الذي اعتاده في حياته المدنية على مر السنوات.
قبل أن يلتحق بالخدمة، لم يُخفِ النعيمي قلقه النسبي غير المبرر، إذ خشي الشعور بالعزلة والوحدة، بعيداً عن الأهل وحياته المدنية المفعمة بالعمل والإنجاز والمعارف والصداقات، خصوصاً وأن عائلته لم تتصل بالعسكرية في تجارب سابقة، لكن قلقه تبدد تماماً حين وجد الإمارات كلها أسرة ممتدة له، ومئات المنتسبين أخوة له، ذلك وصفٌ صادق نابع من القلب لا مجاملة فيه ولا تجمل، هكذا اختتم خالد حديثه.