اتفاقيات التجارة الحرة الجديدة ابتزاز بظل القانون
الخليج
يخوض العالم والولايات المتحدة هذه الأيام سجالاً حول اتفاقيات التجارة الجديدة. ويطلق على هذه الاتفاقيات فيما مضى اسم اتفاقيات التجارة الحرة بينما هي في واقع الأمر اتفاقيات تجارة مدارة يتم تفصيلها حسب شروط الشركات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واستحدث لها مصطلح جديد هو اتفاقيات الشراكة لكنها ليست شراكة الأنداد بل هي شراكة تملي شروطها واشنطن. لكن من حسن الحظ أن «شركاء» الولايات المتحدة هم أكثر من يعترض عليها.
وليس صعباً الوقوف على الأسباب. فهذه الاتفاقيات تتجاوز حدود النشاط التجاري لتشمل الاستثمارات والملكية الفكرية ما يتطلب تغييرات واسعة في النظام القضائي والمالي والأطر التنظيمية للدول الأعضاء فيها دون اعتبار للمؤسسات الديمقراطية.
ولعل الجزء الأكثر إثارة للقلق ويفتح مجالات التلاعب هو الجزء المتعلق بحماية الاستثمارات. والمعروف أن الشركات تخشى من قرارات التأميم التي تصدرها حكومات بعض الدول لمصادرة أملاكها. لكن الاتفاقيات الجديدة لا تكترث بهذه المخاوف التي غابت عن خريطة الاستثمار في السنوات الأخيرة، ناهيك عن أن المستثمرين يمكنهم التأمين على استثماراتهم لدى وكالة ضمان الاستثمار التابعة للبنك الدولي كما أن الحكومة الأمريكية وبعض حكومات العالم توفر مثل هذه الضمانات. ومع ذلك تطلب الولايات المتحدة من شركائها في اتفاقيات الشراكة بنوداً مماثلة رغم أن لديهم قوانين تضمن الاستثمارات هي نسخة طبق الأصل عن القوانين الأمريكية.
والغاية الحقيقية من تلك البنود هي عرقلة القوانين الخاصة بحماية البيئة والصحة العامة وحتى القوانين الناظمة لعمل أسواق الأسهم والسندات في الدول المستهدفة وذلك من أجل حماية الشركات والأفراد الأمريكيين الذين يستطيعون تحميل حكومة الدولة المضيفة مسؤولية التعويض عن تراجع أرباحهم المستقبلية الناتج عن أي تغيير في القوانين.
وهذا ليس احتمالاً افتراضياً. فشركة فيليب موريس المنتجة للتبغ تقاضي حكومة اوروغواي وحكومة أستراليا على طلبهما منها وضع تحذير على علب التبغ. وكل ما فعلته الحكومتان لا يرقى إلى مستوى ما طلبته الحكومة الأمريكية نفسها من فيليب موريس فيما يتعلق بتوضيح أضرار استهلاك التبغ على صحة المستهلكين. لكن من وجهة نظر الشركة فإن التحذير لقي تجاوباً من المستهلكين أدى إلى تراجع مبيعاتها وهو ما تطالب بتعويضات عنه.
وفي المستقبل سوف تجد من يطالب حكومة بلدك بالتعويض عن خسائر تكبدها بسبب حملة مكافحة المخدرات أو أضرار الإسبتوس أو حتى تسخين كوكب الأرض.
وتسعى الشركات عبر الضغط على فرق المفاوضات التي تضع بنود اتفاقيات الشراكة تلك، إلى وضع بنود سرية تضمن مثل هذه التعويضات، لكن الكشف عنها يتم مصادفة من أعضاء الوفود الذين يعارضون مثل هذه السطوة التي تمارسها الشركات على صناع القرار.
ومما يجدر التركيز عليه هنا هو أن تراث القانون الأمريكي العريق من النزاهة والشفافية وفرص دحض القرارات التي لا تصب في مصلحة العامة، كلها مهددة اليوم بالاختراق أو الإلغاء في ظل اتفاقية تركز على حرية الحركة بضمان تشريعات جديدة يتم تفصيلها على هواها.
وتستغل الشركات قدرتها على تحمل تكاليف الدعاوى وأتعاب المحامين في مختلف دول العالم لكسب قضايا غالباً ما يكون الخصم فيها أفراداً أو اتحادات عمال أو حكومات ضعيفة لا تملك الإمكانيات التي تتطلبها المواجهة مع الشركات في المحاكم.
وتكشف الأرقام عدم خسارة الشركات الأمريكية أية دعوى قضائية في السنوات الأخيرة إلا ما ندر وسوف تعزز بنود اتفاقيات الشراكة الجديدة قدرتها على ابتزاز الحكومات بحكم القانون دون دفع نفقات التقاضي.
ولذا كان لا بد من سن تشريعات لحماية الملكيات العقارية أو الاستثمارات فمن الأجدر بنا أن نضمن حماية شركات بلادنا عبر تغيير القوانين التي تتطلبها الشراكة التجارية بدلاً من ضمان مصالح الغير.
ولا شك أن التشريعات والقوانين تحدد شكل المجتمع والدولة التي نعيش في ظلها. وهي ذات تأثير كبير في قدرتنا على المساومة والتفاوض، وبالتالي على تحقيق المساواة التي بات انعدامها مشكلة تؤرق العالم كله.