خصائص التفسخ الاقتصادي
د. لويس حبيقة
في* سنة* 1989* أعلن الكاتب المعروف* «فرانسيس فوكوياما*» أن الرأسمالية الغربية انتصرت وأن الديمقراطية الليبيرالية ستعم العالم*. هل تسرع فوكوياما في* تنبؤاته، أم أن الشعور بالنصر هو الذي* دفع الكاتب إلى حسم صراع الحرب الباردة بشكل نهائي* وواضح؟* هل كان قلب الكاتب أقوى من عقله؟ بعد* 26* سنة من نهاية الصراع بين الشرق والغرب،* هل تحققت نبوءة فوكوياما، أم أن العكس حصل ولماذا؟
في* الواقع، عرف الاقتصاد الغربي* أزمات كبرى منذ سنة* 1989* أهمها أزمتي* 1997*ا و*. 2008الأزمة الثانية كانت أكبر وأعمق وضربت كبرى الاقتصادات العالمية،* وفي* مقدمها الولايات المتحدة*.* الاقتصاد الغربي* يتعثر بينما* يتحقق النمو القوي* في* معظم الدول النامية والناشئة*. تنمو الصين بنسب سنوية توازي* 4* مرات النسب الغربية،* كما تنمو الهند بنسب سنوية تعادل* 3* مرات المعدل الغربي*. ما* يحصل في* الغرب هو* عمليات قيصرية لتخفيف الديون على كل المستويات، أي* الفردي* والعائلي* كما في* الشركات والمؤسسات وعلى الصعيد العام*. وحصلت عمليات تقشف كبيرة على جميع هذه المستويات ما فرض على المصارف المركزية التدخل عبر الضخ النقدي* لتجنب حصول الانكماش * Deflation. تجنب الانكماش لا* يكفي،* بل* يجب العودة إلى النمو لتخفيف البطالة*.
* في* الواقع،* ارتفعت البطالة إلى مستويات مقلقة في* أمريكا وأوروبا ما فرض على الحكومات توسيع الضمانات الاجتماعية للعاطلين عن العمل كي* يستمروا في* الحياة الطبيعية*. في* الولايات المتحدة ارتفعت نسبة المستفيدين من إعانات الإعاقة من*٪ 3* في* سنة* 1990* إلى* ٪6* اليوم*. إن مواطنين سليمين عاديين* يتحججون بالإعاقة ليستفيدوا من مساعدات أكثر كرماً*. ولا شك* في «أن الحاجة تبقى أم الاختراع*». وتعاني* الولايات المتحدة من توسع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء،* كما أن قدرة التنقل اجتماعياً أصبحت أصعب في* بلد كان* يعرف ببلد الفرص الكبيرة*. حصة ال* 1٪* الأغنى من الدخل الوطني* الأمريكي* بلغت*٪ 9* في* سنة* 1970* ووصلت إلى*٪ 24* في* سنة* 2007* قبل الأزمة،* وهي* من دون شك أعلى اليوم*. لماذا توسعت الفجوة؟* الأسباب عدة منها التعليم والعولمة والسياسات المالية العادية التي* اتبعت على مدى عقود من الزمن*. أزمة* 2008* لم تكن، إذاً، مالية فقط،* بل اقتصادية واجتماعية أيضاً، ما* يفسر عمقها واستمرارها*. حال أمريكا* يشبه حال الدول الغربية الأخرى التي* تدفع المواطنين العاديين إلى التصويت في* العديد من الأحيان إلى أحزاب اليمين المتطرف كما إلى الشعور بالعداء نحو المهاجرين والأقليات العرقية والمذهبية والدينية وغيرها*.
في* كتابه* «ثروات الأمم*» الصادر في* سنة * 1776،* وصف مؤسس علم الاقتصاد* «أدام سميث*» «الاقتصاد الراكد*» بالاقتصاد الغني* الذي* توقف عن النمو*. كان* يتكلم عن الصين في* ذلك الوقت،* لكن* يمكن اقتباس وصفه تماماً* بالنسبة إلى الاقتصادات الغربية اليوم*.لماذا توقفت الصين عن النمو في* رأي* سميث؟* وجود مؤسسات* غير منتجة وقوانين مهترئة بما فيها إدارة عامة فاسدة،* كما بسبب ضعف التجارة الدولية وعدم تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة ووجود مافيات اقتصادية تستغل الثروات الوطنية وتضر بمصالح الفقراء والطبقات الوسطى*. سقط النمو الصيني* في* ذلك الوقت لهذه الأسباب مجتمعة*. هل* ينطبق وصف سميث على الدول الغربية اليوم، أي* اقتصادات راكدة تعاني* مشكلات شبيهة إلى حد ما بالداء الصيني* الماضي؟ اليوم الصين تنمو بنسب عالية لأنها عالجت معظم أوضاعها، والاقتصاد الغربي* يتعثر*. هنالك تفسخ اقتصادي* كبير في* الاقتصادات الغربية لا* يمكن معالجته بالطرق الكلاسيكية،* بل* تجب إعادة النظر في السياسات التي* وسعت الفجوة،* كما في العديد من القوانين والمؤسسات العامة التي* تخدم أصحاب الثروة والنفوذ وتقف في* وجه الفقراء والطبقات الوسطى شراكات وأفراداً*.
على* كل حال، ارتفعت الديون العامة في* الغرب بشكل كبير في* العقود الماضية وحتى سنة * 2008*هنالك خلل في* العلاقة بين الأجيال،* إذ من* غير المقبول أن تحمل الأجيال الحالية الأجيال المستقبلية مهمة، بل مسؤولية تسديد ديونها الناتجة عن سوء الأداء والهدر والإنفاق* غير المجدي*. هنالك خلل في* العلاقة الأخلاقية بين أجيال اليوم والمستقبل لم تكن موجودة في* التاريخ أو أقله بهذه الدرجة*. تجد الدول الغربية نفسها اليوم أمام مأزق كبير لا* يمكن معالجته،* كما قال* «نيال فيرغيسون*» في* كتابه* «الانحلال الكبير*»،* إلا عبر سياسات ثلاث جميعها مكلفة وصعبة*:
أولاً*: محاولة رفع نسب النمو كي* تصبح أعلى من فائدة الاقتراض،* وبالتالي* تحسن الدولة وضعها من ناحية القدرة على تسديد الديون*. وكي* ترتفع نسب النمو،* لا بد من زيادة الإنفاق العام بحيث تتحرك الاستثمارات العامة،* كما الاستهلاك العام*. وتكمن المشكلة هنا ليس في* رفع قيمة الإنفاق،* وإنما في* نوعية الانفاق المتزامن مع الهدر، إضافة إلى تفشي* الفساد على مستويات عدة*. واختيار تفاصيل ومحتوى الإنفاق لم* يكن جيداً،* بل خضع لأهواء السياسيين الذين وجهوه إلى ما* يخدم مصالحهم السياسية والانتخابية*.
ثانياً*: الإفلاس الجزئي*، أي* عدم تسديد قسم من الديون بالتعاون مع المقرضين أو* غصباً عنهم*. ولا ننسى أن المصارف الخاصة التي* أقرضت اليونان على مدى سنوات أعفتها من قسم مهم كي* تحصل على القسم الباقي*. الخيار بالنسبة للمصارف كان بين الحصول على جزء من القروض أو لا شيء،* فكان الخيار الذكي* المناسب*.
ثالثاً*: الحل النقدي* الذي* اتبعته دول عدة في* الماضي،* من بينها أوروبية، وهو تخفيض سعر صرف النقد الوطني،* وبالتالي* تخفيض ثقل الديون الموقعة بالعملة الوطنية*. يؤدي* إلى التضخم والغضب الشعبي* خاصة من قبل أصحاب الأجر الذين* يقبضون رواتبهم بالنقد الوطني*. هذا حل قسري* اتبع في* الماضي* لكنه* يزعزع الثقة بالدولة ويجعل من إمكانية اقتراضها من جديد عملاً* مستحيلاً*. ولم تستطع الدول الأوروبية استعمال هذا السلاح حالياً* بسبب وجود النقد المشترك أي* اليورو الذي* حمى إلى حد بعيد الطبقات الوسطى وما دون*.
هنالك دولة مهمة كانت آمالها كبيرة لكنها تتعثر اليوم للأسباب المذكورة أعلاه*. بلغ* النمو الروسي* مستويات مرتفعة لدولة في* حجمها أي *٪ 4*.5* في* سنة * 2010،*٪ 4*.3* في* سنة* 2011 * وبدأ الانحدار تدريجياً*. الأسباب واضحة ولا تعالج حتى اليوم،* وتتلخص أولاً:* بسوء تنوع الاقتصاد الذي* ما زال معتمداً* على المواد الأولية، خاصة النفط،* ثانياً*: بضعف المنافسة نتيجة وجود قوى كبرى تسيطر على الأسواق،* كما ثالثاً* بضعف الاستثمارات النوعية في* البنية التحتية، كما رابعاً* بضعف الاستثمارات في* القطاعات الاقتصادية الأساسية*. وعندما ترتفع أسعار المواد الأولية،* تتحسن أوضاع الدولة ويبدأ الهدر وعندما تنخفض،* كما* يحصل اليوم،* يبدأ التعثر ويختل النمو*. النظام المصرفي* ضعيف والنقد* يتقلب كثيراً،* وبالتالي* لم تبن الإدارات الروسية المتتابعة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي* دولة عصرية قوية ومتنوعة*. تحتاج روسيا ليس إلى اقتصاد حديث فقط، بل إلى طرق حكم أحدث وأذكى وأفعل بحيث تخف قدرة المافيات على التحكم في مصالح الشعب*. الجيوش الكبيرة لا تبني* وحدها دولاً* قوية،* ولا بد للوعي* أن* يحصل حتى تتحسن أوضاع الشعوب*.
يقول الاقتصادي* «دوغلاس نورث*»، حامل جائزة نوبل، إن عدم قدرة بعض المجتمعات على وضع قوانين عصرية ومؤسسات فاعلة تؤمن تنفيذ واحترام هذه القوانين هي* من أهم أسباب الركود الاجتماعي* والانحدار الاقتصادي* الحديث*. روسيا لم تستفد من التجارب الغربية وترفض اعتماد الطرق الحديثة للنهوض*. لذا فإن الحلول واضحة للجميع لتجنب الانحدار، وهي* التحديث القانوني* والفاعلية في* التنفيذ، كما احترام العقود بين الدولة والمواطن، وفيما بين المواطنين*.