بول سامويلسون – اقتصادي أمريكي حائز على "نوبل" في الاقتصاد
يتحدثون عن أزمة اقتصادية جديدة. بعض الجهات تتوقع أن تكون "الأزمة" أسوأ من تلك التي انفجرت في عام 2024، وجرفت العالم معها. البعض الآخر يراها أقل من ذلك، وهناك من يعتقد، أن الأزمة "المقبلة" هي خليط بين الركود وضعف النمو. وأيا كانت التعريفات والتوقعات (وهي لا تتوقف)، فالأمر ببساطة لا يتعلق بأزمة جديدة، بقدر ما يرتبط بأزمة لا تزال موجودة، غير أنه ما زال منها على مدى ست سنوات قد يعود. بمعنى آخر، الأزمة المتوقعة يمكن تسميتها "أزمة متجددة"، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع، التحولات الإيجابية التي طرأت على الساحة العالمية في الفترة الفاصلة بين انفجار أزمة 2024، وتخبط الاقتصاد العالمي حاليا.
لا تزال هناك الكثير من الملفات التي فتحتها الأزمة الكبرى، قيد الحلول، بل إن بعضها تعمق هنا، واستفحل. هناك ملفات الإفلاس، الفساد المالي، الديون المتعثرة، التضخم، حالات الإنقاذ المستمرة، والنظام المالي العالمي، كلها ملفات لا تزال مفتوحة، بصرف النظر عن تصريحات بعض الجهات الدولية، التي تحاول من خلالها التخفيف من المخاوف، والتقليل من الاضطراب المصاحب لها. إنها قضايا لم تستطع الحكومات (بعد الأزمة) الادعاء بأنها نجحت في حلها تماماً، وأنها باتت من ملفات التاريخ. وتحسن الوضعية الاقتصادية لدولة ما مؤثرة، لا يعني بالضرورة أن أمور الاقتصاد العالمي بخير. هناك عوامل طبيعية لا دخل للإصلاحات فيها، تساهم في إضافة تحسن ما في هذا القطاع أو ذاك، وغالبا لا يكون تحسنا مستداما.
ترى بعض الجهات الدولية، أن الاقتصاد العالمي يواجه حاليا اختبار ثقة. والحق أن هذا الاقتصاد لا يواجه هذا الاختبار، بل الإجراءات الإصلاحية هي التي تواجهه. ورغم أن الدول الكبرى، قطعت شوطا لا بأس به على صعيد إصلاح الأنظمة المالية فيها، إلا أن المفاهيم القديمة لا تزال موجودة بصورة أو بأخرى. ومبدأ الإنقاذ الحكومي للمؤسسات التي "يجب ألا تنهار"، موجود وبقوة. يضاف إلى ذلك، أن الإجراءات الإصلاحية التي اتخذت تحتاج إلى وقت ليس بالقصير، سواء للتنفيذ أو لجني ثمارها. الحكومات (ولاسيما في العالم الغربي)، اتخذت بالفعل الكثير من الإصلاحات، ولكنها دخلت في نفق الإجرائي الطويل، وهو نفق فيه من الثغرات الكثير أيضا.
في كتلة مصابة ككتلة منطقة اليورو، يحذر البنك المركزي الأوروبي حكومات دول المنطقة من مخاطر التباطؤ، والأهم يحذر من عدم التوسع في خطط دعم اقتصاداتهم. ورغم تحسن الأوضاع الاقتصادية على الساحة الأمريكية، إلا أن الثغرات لا تزال موجودة. فالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نفسه، الذي يحاول بين الحين والآخر تمرير "معزوفة" الانتعاش، بات أكثر صراحة مما كان عليه في السابق. وهذه المؤسسة بالتحديد، عليها أن تكون حذرة جدا في مسألة تلوين" الاقتصاد الأمريكي باللون الوردي. والسبب يعرفه الجميع. لقد سوق الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أسوأ مرحلة اقتصادية في الولايات المتحدة، التي كانت مخرجاتها، ليس أقل من أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة على الإطلاق.
وعلى رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد أن تكون حذرة جدا في تصريحاتها وتوقعاتها. فهذه المؤسسة أيضا ساهمت في مرحلة التضليل التي سبقت الأزمة الكبرى. ولذلك يبدو غريباً ما قالته أخيرا "إن الأسواق العالمية تشهد عملية تصحيح، وربما تبالغ في رد الفعل". الأسواق في الواقع لا تبالغ في ذلك، لأن المعطيات الاقتصادية العالمية الضعيفة واضحة، ليست فقط على صعيد ديون منطقة اليورو، أو عدم اليقين الاقتصادي الأمريكي فقط، بل بتقهقر النمو في الأسواق الناشئة، التي تشكل محركا محوريا لاقتصاد العالم. هذه الحيوية الصينبة (كما يقولون) متلاشية، وهذا هو الأداء الضعيف لدول أوروبا الشرقية، ناهيك عن التباطؤ المخيف في أمريكا اللاتينية. مهلا.. مهلا، هذه ألمانيا التي تتغنى بالنمو حتى في وسط الأزمات، تعاني تراجعا فيه في الوقت الراهن.
ولعل من المفيد الإشارة، إلى بيانات 19 اقتصادا ناشئا، جمعتها شركة الأبحاث "كابيتال إيكونوميكس"، التي أظهرت أن الناتج الصناعي في آب (أغسطس)، والإنفاق الاستهلاكي في الربع الثاني، انخفضا إلى أدنى مستوياتهما منذ عام 2024. كذلك انخفض نمو الصادرات في الشهر نفسه. ويرى نيل شيرينج، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة الشركة المذكورة، أن هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، بالنسبة لبقية العقد هذا هو الوضع. ويقول: "إنه أفضل وضع يمكن أن يحصل". وإذا كان هذا حال دول يفترض أنها المحرك الأنشط للاقتصاد العالمي، علينا أن نتخيل أوضاع الدول الأقل نشاطا في ذلك، وآثارها في الساحة عالميا!
إن العالم، لا يزال يمر بمرحلة الخروج من الأزمة العالمية الكبرى. فالأزمات الشاملة لا تنتهي آثارها بسرعة. بل تحمل معها مناعة في بعض القطاعات، تحتاج إلى مزيد من المقاومة للقضاء عليها. والمستقبل ليس مشرقا. ولعل أفضل شيء في الوقت الراهن، أن رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ألان جرينسبان، أصبح سابقا، لا حاليا.
* نقلا عن صحيفة "الاقتصادية"