الخليج
هبوط أسعار النفط بأكثر من 40 في المئة بين شهري يونيو/حزيران وديسمبر/كانون الأول 2024 فاجأ الكثيرين من المراقبين، مؤسسات وخبراء، لأن الكثير منهم كان يتوقع ارتفاع الأسعار في ظل الاضطرابات الجيوسياسية استناداً إلى تطورات أسعار النفط في الماضي، والتي تشير إلى الارتفاع في ظل هكذا بيئة عالمية مضطربة في مناطق البلدان المنتجة والمصدرة للنفط . وقد أثار هبوط أسعار النفط جدلاً بين المهتمين والمتابعين حول الأسباب التي أدت إلى ذلك، وهل هي اقتصادية يمكن تعليلها وفهمها بتطور النمو البطيء للطلب على النفط أو النمو المرتفع للعرض من النفط خصوصاً النفط الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية، أم هي سياسية هادفة إلى الضغط اقتصادياً على روسيا وإيران وفنزويلا لتحقيق بعض المآرب السياسية . الحسم في هذا الموضوع غير ممكن والمراقبون كثر غير متفقين على أسباب الهبوط المفاجئ لأسعار النفط ولكن يقدم الفرقاء أسباباً قد تجمع بين الأسباب الاقتصادية والمادية والسياسية . وما دام الأمر كذلك، فإنني لا أخوض في أسباب الهبوط لأسعار النفط ولكن سأحاول استعراض أثار الهبوط على الاقتصاد العالمي، وعلى البلدان المستوردة للنفط، وعلى البلدان المصدرة للنفط، والتعرف على السياسات المناسبة التي يحبذ أن تتبناها كل من البلدان المستوردة والمصدرة للنفط .
حسب صندوق النقد الدولي، فإن أسعار النفط المنخفضة الناجمة عن زيادة عرض النفط هي أخبار سارة للاقتصاد العالمي بشكل عام، ولكن توزيع الآثار بين مستوردي ومصدري النفط كبير . التقدير الكمي للآثار يعتمد على افتراضات حول حجم زيادة عرض النفط وفترة استمرارية الزيادة . وحسب الصندوق أيضاً فإن الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تبلغ 7 .0 في المئة عام2020 و8 .0 في المئة عام 2024 أي إن آثار انحفاض أسعار النفط على الاقتصاد العالمي هي زيادة تقدر بنحو 571 مليار دولار و688 مليار دولار في عامي2020 و2016 على التوالي باعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي يقدر قبل هبوط أسعار النفط بنحو 1 .81 تريليون دولار و86 تريليون دولار في2020 و2016 على التوالي، والسؤال من الرابحون من زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي الناجمة عن هبوط أسعار النفط؟
ننظر في الآثار على البلدان المستوردة: يؤثر انخفاض أسعار النفط على البلدان المستوردة من خلال ثلاث قنوات هي: أثر زيادة الدخل الحقيقي على الاستهلاك: انحفاض أسعار النفط تزيد دخل الأفراد لأن المصروفات على النفط أقل، وبالتالي يزيد الاستهلاك . وأثر الانخفاض على تكلفة إنتاج السلع النهائية، وبالتالي على الأرباح والاستثمارات، والأثر على معدل التضخم . هذه الآثار الناجمة عن انخفاض أسعار النفط تختلف قوتها بين البلدان المستوردة للنفط . وحسب صندوق النقد الدولي، فإن أثر الدخل الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية أقل من الأثر في منطقة اليورو أو اليابان، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تنتج في الوقت الراهن أكثر من نصف النفط الذي تستهلكه . وتعتمد آثار الدخل الحقيقي والأرباح على كثافة الطاقة في البلدان . فمثلاً ما زال كل من الصين والهند أكثر كثافة للطاقة من الاقتصادات المتقدمة، وبالتالي يستفيدان أكثر من انخفاض أسعار النفط . في الولايات المتحدة الأمريكية نسبة استهلاك النفط إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 8 .3 في المئة بينما تبلغ 4 .5 في المئة في الصين و5 .7 في المئة في الهند وإندونيسيا . بعض البلدان المستوردة للنفط قد تتأثر سلبياً بانخفاض أسعار النفط خصوصاً البلدان التي تتلقى مساعدات وتحويلات من أو تصدر سلع وخدمات للدول المصدرة للنفط .
أما آثار انخفاض أسعار النفط على البلدان المنتجة والمصدرة للنفط فهي سلبية حيث ينخفض الدخل الحقيقي وكذلك أرباح إنتاج النفط حيث يقل الفرق بين السعر وتكلفة إنتاج برميل النفط، وهذا عكس ما يحصل في البلدان المستوردة للنفط . وكما هو الحال في البلدان المستوردة، تأثير انحفاض أسعار النفط يختلف بين البلدان المصدرة حسب اعتمادها على إنتاج وتصدير النفط . فعلى سبيل المثال، تقدر حصة النفط من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 25 في المئة و70 في المئة من الصادرات، و50 في المئة من إيرادات الحكومة في روسيا، وفي دول مجلس التعاون حصة النفط في إيرادات الحكومات تقدر بنحو 5 .22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و6 .63 في المئة من الصادرات . وتتجسد الآثار المباشرة لانخفاض أسعار النفط على البلدان المصدرة بشكل ميكانيكي في عجز الميزانية الحكومية . فالمملكة العربية السعودية أعلنت ميزانيتها بمصروفات قدرها 229 مليار دولار تقريباً وبعجز تمويلي قدره 6 .38 مليار دولار لعام2020 . وذكر وزير مالية المملكة العربية السعودية، د .إبراهيم عساف، أن المملكة سوف تمول العجز إما بالسحب من الاحتياطيات أو الاقتراض من أسواق المال . ويبدو أن المملكة لم تخفض ميزانيتها بل أبقتها في مستوى عام 2024 على الرغم من انخفاض أسعار النفط وبالتالي انخفاض الإيرادات، وحسناً فعلت لأن الاحتياطيات التي تجمعت لديها في السنوات الماضية من جراء الفوائض المالية سواء في الميزانية أو في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات لا بد من استخدامها وقت الحاجة .
وختاماً نقول إن الآثار المباشرة لهبوط أسعار النفط على اقتصادات البلدان المصدرة سلبية وعلى البلدان المستوردة إيجابية ولكن مقدار الآثار تختلف من بلد إلى بلد . لذلك لا بد من قيام كل بلد بإجراء دراسة متأنية وعميقة لتحديد وتقدير الآثار ورسم السياسات للتعامل مع الآثار المقدرة .