لقد حرَّم الله الظلم على نفسه وجعله بين العباد مُحَرَّماً، فقال: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرََّمًا فَلا تَظَالَمُوا»، (أخرجه مسلم)، كما جعل الظلم قرين الشرك بالله كما قال سيدنا لقمان لولده: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، «سورة لقمان: الآية 13»، ومن المعلوم أن الظلم يُحدث الاضطراب بين الأفراد والجماعات وينشر الرعب والفساد، ويُحيل الحياة إلى جحيم لا يُطاق، في ظله ينمو النفاق، وفي كَنَفِه يكثر الشقاق وتشتد الخصومات، ويضعف الدين في القلوب وتُسلب الحقوق وتُهدر الحرية وتُداس الكرامة، فما انتشر الظلم في قرية إلا دَمَّرَها ولا في أمة إلا أهلكها .
إن الطغيان والظلم يرجع تاريخه إلى عهدٍ بعيد في الزمن الغابر، حين اعتدى أحدُ بني آدم على أخيه وسفك دمه ظُلمًا وعدوانًا، واندفاعًا نحو تحقيق الأطماع والمصالح الذاتية، فكان قدوة سيئة للعدوان والطغيان، وَبَاءَ بالخسران والخزي والندامة على فعلته البشعة .
دعوة المظلوم
إن دعوة المظلوم تُفتح لها أبواب السماء ويستجيب الله سبحانه وتعالى لها، كما جاء في الحديث: أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (… واتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)، «أخرجه مسلم».
ونسوق هنا مثالين لدعوة صحابيين جليلي وهما سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد- رضي الله عنهما- وهما من العشرة المبشرين بالجنة .
دعوة سعد بن أبي وقاص
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً - أَوْ رِجَالاً - إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، َإِنَّ سَعْداً كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ»، (أخرجه البخاري).
دعوة سعيد بن زيد
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، قَالَ : فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ، فَمَاتَتْ»، (أخرجه مسلم).
ومن خلال قراءتنا للأحاديث السابقة نجد أن هؤلاء الظالمين قد أخذوا جزاءهم في الدنيا على ما اقترفوه من ظُلم وكذب على الآخرين، فالله يُمهل ولا يُهمل ، ومن المعلوم أن أنواع الظلم عديدة، منها ظلم الإنسان لنفسه بارتكاب المعاصي والموبقات، وكذلك ظلم الإنسان لأولاده بتفضيل بعضهم على بعض، فيترك في نفوسهم الحقد والغلّ على بعضهم البعض، وظلم الزميل لزميله بالدسّ له والوقيعة فيه، وظلم الشريك لشريكه بخيانته، وظلم الزوج بترك العدل بين زوجاته، وكذلك بحرمان البنات من ميراثه ومنحه للذكور من أولاده ، لقد كانت البشرية قبل بزوغ فجر الإسلام تعرف الظلم والعدوان أكثر مما تعرف الحق، والإنسانية وقتئذ في ظلمات بعضها فوق بعض، يفتك القوي بالضعيف، ويأكل القادر حقوق العاجز، ومع ذلك عرف العرب في جاهليتهم حلف الفضول.. «السيرة النبوية لابن هشام 1/133»، أن ينصروا المظلوم ويقفوا معه حتى يأخذ حقه من الظالم.
وجاءت رسالة الإسلام، رسالة العدل والمساواة، حيث أشرقت الأرض بنور ربها، وارتفعت كلمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع عندما قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»، (أخرجه مسلم).