تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » خصائص التفسخ الاقتصادي

خصائص التفسخ الاقتصادي 2024.

مقالات
خصائص التفسخ الاقتصادي

د. لويس حبيقة
في* ‬سنة* ‬1989* ‬أعلن الكاتب المعروف* «‬فرانسيس فوكوياما*» ‬أن الرأسمالية الغربية انتصرت وأن الديمقراطية الليبيرالية ستعم العالم*.‬ هل تسرع فوكوياما في* ‬تنبؤاته، أم أن الشعور بالنصر هو الذي* ‬دفع الكاتب إلى حسم صراع الحرب الباردة بشكل نهائي* ‬وواضح؟* ‬هل كان قلب الكاتب أقوى من عقله؟ بعد* ‬26* ‬سنة من نهاية الصراع بين الشرق والغرب،* ‬هل تحققت نبوءة فوكوياما، أم أن العكس حصل ولماذا؟
في* ‬الواقع، عرف الاقتصاد الغربي* ‬أزمات كبرى منذ سنة* ‬1989* ‬أهمها أزمتي* ‬1997*ا ‬و*. ‬2008‬الأزمة الثانية كانت أكبر وأعمق وضربت كبرى الاقتصادات العالمية،* ‬وفي* ‬مقدمها الولايات المتحدة*.‬* ‬الاقتصاد الغربي* ‬يتعثر بينما* ‬يتحقق النمو القوي* ‬في* ‬معظم الدول النامية والناشئة*.‬ تنمو الصين بنسب سنوية توازي* ‬4* ‬مرات النسب الغربية،* ‬كما تنمو الهند بنسب سنوية تعادل* ‬3* ‬مرات المعدل الغربي*.‬ ما* ‬يحصل في* ‬الغرب هو* ‬عمليات قيصرية لتخفيف الديون على كل المستويات، أي* ‬الفردي* ‬والعائلي* ‬كما في* ‬الشركات والمؤسسات وعلى الصعيد العام*.‬ وحصلت عمليات تقشف كبيرة على جميع هذه المستويات ما فرض على المصارف المركزية التدخل عبر الضخ النقدي* ‬لتجنب حصول الانكماش * ‬Deflation. تجنب الانكماش لا* ‬يكفي،* ‬بل* ‬يجب العودة إلى النمو لتخفيف البطالة*.‬
* ‬ في* ‬الواقع،* ‬ارتفعت البطالة إلى مستويات مقلقة في* ‬أمريكا وأوروبا ما فرض على الحكومات توسيع الضمانات الاجتماعية للعاطلين عن العمل كي* ‬يستمروا في* ‬الحياة الطبيعية*.‬ في* ‬الولايات المتحدة ارتفعت نسبة المستفيدين من إعانات الإعاقة من*٪ ‬3* ‬في* ‬سنة* ‬1990* ‬إلى* ‬٪6* ‬اليوم*.‬ إن مواطنين سليمين عاديين* ‬يتحججون بالإعاقة ليستفيدوا من مساعدات أكثر كرماً*.‬ ولا شك* في «‬أن الحاجة تبقى أم الاختراع*». و‬تعاني* ‬الولايات المتحدة من توسع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء،* ‬كما أن قدرة التنقل اجتماعياً أصبحت أصعب في* ‬بلد كان* ‬يعرف ببلد الفرص الكبيرة*.‬ حصة ال* ‬1٪* ‬الأغنى من الدخل الوطني* ‬الأمريكي* ‬بلغت*٪ ‬9* ‬في* ‬سنة* ‬1970* ‬ووصلت إلى*٪ ‬24* ‬في* ‬سنة* ‬2007* ‬قبل الأزمة،* ‬وهي* من ‬دون شك أعلى اليوم*.‬ لماذا توسعت الفجوة؟* ‬الأسباب عدة منها التعليم والعولمة والسياسات المالية العادية التي* ‬اتبعت على مدى عقود من الزمن*. ‬أزمة* ‬2008* ‬لم تكن، إذاً، مالية فقط،* ‬بل ‬اقتصادية واجتماعية أيضاً، ما* ‬يفسر عمقها واستمرارها*.‬ حال أمريكا* ‬يشبه حال الدول الغربية الأخرى التي* ‬تدفع المواطنين العاديين إلى التصويت في* ‬العديد من الأحيان إلى أحزاب اليمين المتطرف كما إلى الشعور بالعداء نحو المهاجرين والأقليات العرقية والمذهبية والدينية وغيرها*.‬
في* ‬كتابه* «‬ثروات الأمم*» ‬الصادر في* ‬سنة * ‬1776،* ‬وصف مؤسس علم الاقتصاد* «‬أدام سميث*» «‬الاقتصاد الراكد*» ‬بالاقتصاد الغني* ‬الذي* ‬توقف عن النمو*. ‬كان* ‬يتكلم عن الصين في* ‬ذلك الوقت،* ‬لكن* ‬يمكن اقتباس وصفه تماماً* ‬بالنسبة إلى الاقتصادات الغربية اليوم*.‬لماذا توقفت الصين عن النمو في* ‬رأي* ‬سميث؟* ‬وجود مؤسسات* ‬غير منتجة وقوانين مهترئة بما فيها إدارة عامة فاسدة،* ‬كما بسبب ضعف التجارة الدولية وعدم تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة ووجود مافيات اقتصادية تستغل الثروات الوطنية وتضر بمصالح الفقراء والطبقات الوسطى*. ‬سقط النمو الصيني* ‬في* ‬ذلك الوقت لهذه الأسباب مجتمعة*. ‬هل* ‬ينطبق وصف سميث على الدول الغربية اليوم، أي* ‬اقتصادات راكدة تعاني* مشكلات شبيهة إلى حد ما بالداء الصيني* ‬الماضي؟ اليوم الصين تنمو بنسب عالية لأنها عالجت معظم أوضاعها، والاقتصاد الغربي* ‬يتعثر*.‬ هنالك تفسخ اقتصادي* ‬كبير في* ‬الاقتصادات الغربية لا* ‬يمكن معالجته بالطرق الكلاسيكية،* ‬بل* ‬تجب إعادة النظر في السياسات التي* ‬وسعت الفجوة،* ‬كما في العديد من القوانين والمؤسسات العامة التي* ‬تخدم أصحاب الثروة والنفوذ وتقف في* ‬وجه الفقراء والطبقات الوسطى شراكات ‬وأفراداً*.‬
على* ‬كل حال، ارتفعت الديون العامة في* ‬الغرب بشكل كبير في* ‬العقود الماضية وحتى سنة * ‬2008*‬هنالك خلل في* ‬العلاقة بين الأجيال،* ‬إذ من* ‬غير المقبول أن تحمل الأجيال الحالية الأجيال المستقبلية مهمة، بل مسؤولية تسديد ديونها الناتجة عن سوء الأداء والهدر والإنفاق* ‬غير المجدي*.‬ هنالك خلل في* ‬العلاقة الأخلاقية بين أجيال اليوم والمستقبل لم تكن موجودة في* ‬التاريخ أو أقله بهذه الدرجة*. ‬تجد الدول الغربية نفسها اليوم أمام مأزق كبير لا* ‬يمكن معالجته،* ‬كما قال* «‬نيال فيرغيسون*» ‬في* ‬كتابه* «‬الانحلال الكبير*»‬،* ‬إلا عبر سياسات ثلاث جميعها مكلفة وصعبة*:‬
أولاً*: ‬محاولة رفع نسب النمو كي* ‬تصبح أعلى من فائدة الاقتراض،* ‬وبالتالي* ‬تحسن الدولة وضعها من ناحية القدرة على تسديد الديون*.‬ وكي* ‬ترتفع نسب النمو،* ‬لا بد من زيادة الإنفاق العام بحيث تتحرك الاستثمارات العامة،* ‬كما الاستهلاك العام*.‬ وتكمن المشكلة هنا ليس في* ‬رفع قيمة الإنفاق،* ‬وإنما في* ‬نوعية الانفاق المتزامن مع الهدر، إضافة إلى تفشي* ‬الفساد على مستويات عدة*.‬ واختيار تفاصيل ومحتوى الإنفاق لم* ‬يكن جيداً،* ‬بل خضع لأهواء السياسيين الذين وجهوه إلى ما* ‬يخدم مصالحهم السياسية والانتخابية*.‬
ثانياً*: ‬الإفلاس الجزئي*، ‬أي* ‬عدم تسديد قسم من الديون بالتعاون مع المقرضين أو* ‬غصباً عنهم*. ‬ولا ننسى أن المصارف الخاصة التي* ‬أقرضت اليونان على مدى سنوات أعفتها من قسم مهم كي* ‬تحصل على القسم الباقي*.‬ الخيار بالنسبة للمصارف كان بين الحصول على جزء من القروض أو لا شيء،* ‬فكان الخيار الذكي* ‬المناسب*.‬
ثالثاً*: ‬الحل النقدي* ‬الذي* ‬اتبعته دول عدة في* ‬الماضي،* ‬من بينها أوروبية، وهو تخفيض سعر صرف النقد الوطني،* ‬وبالتالي* ‬تخفيض ثقل الديون الموقعة بالعملة الوطنية*. ‬يؤدي* إلى التضخم والغضب الشعبي* ‬خاصة من قبل أصحاب الأجر الذين* ‬يقبضون رواتبهم بالنقد الوطني*.‬ هذا حل قسري* ‬اتبع في* ‬الماضي* ‬لكنه* ‬يزعزع الثقة بالدولة ويجعل من إمكانية اقتراضها من جديد عملاً* ‬مستحيلاً*.‬ ولم تستطع الدول الأوروبية استعمال هذا السلاح حالياً* ‬بسبب وجود النقد المشترك أي* ‬اليورو الذي* ‬حمى إلى حد بعيد الطبقات الوسطى وما دون*.‬
هنالك دولة مهمة كانت آمالها كبيرة لكنها تتعثر اليوم للأسباب المذكورة أعلاه*.‬ بلغ* ‬النمو الروسي* ‬مستويات مرتفعة لدولة في* ‬حجمها أي *٪ ‬4*.‬5* ‬في* ‬سنة * ‬2010،*٪ ‬4*.‬3* ‬ في* ‬سنة* ‬2011 * ‬وبدأ الانحدار تدريجياً*. ‬الأسباب واضحة ولا تعالج حتى اليوم،* ‬وتتلخص أولاً:* ‬بسوء تنوع الاقتصاد الذي* ‬ما زال معتمداً* ‬على المواد الأولية، خاصة النفط،* ‬ثانياً*: ‬بضعف المنافسة نتيجة وجود قوى كبرى تسيطر على الأسواق،* ‬كما ثالثاً* ‬بضعف الاستثمارات النوعية في* ‬البنية التحتية، كما رابعاً* ‬بضعف الاستثمارات في* ‬القطاعات الاقتصادية الأساسية*.‬ وعندما ترتفع أسعار المواد الأولية،* ‬تتحسن أوضاع الدولة ويبدأ الهدر وعندما تنخفض،* ‬كما* ‬يحصل اليوم،* ‬يبدأ التعثر ويختل النمو*.‬ النظام المصرفي* ‬ضعيف والنقد* ‬يتقلب كثيراً،* ‬وبالتالي* ‬لم تبن الإدارات الروسية المتتابعة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي* ‬دولة عصرية قوية ومتنوعة*.‬ تحتاج روسيا ليس إلى اقتصاد حديث فقط، بل إلى طرق حكم أحدث وأذكى وأفعل بحيث تخف قدرة المافيات على التحكم في مصالح الشعب*.‬ الجيوش الكبيرة لا تبني* ‬وحدها دولاً* ‬قوية،* ‬ولا بد للوعي* أن* ‬يحصل حتى تتحسن أوضاع الشعوب*.‬
يقول الاقتصادي* «‬دوغلاس نورث*»، ‬حامل جائزة نوبل، إن عدم قدرة بعض المجتمعات على وضع قوانين عصرية ومؤسسات فاعلة تؤمن تنفيذ واحترام هذه القوانين هي* ‬من أهم أسباب الركود الاجتماعي* ‬والانحدار الاقتصادي* ‬الحديث*.‬ روسيا لم تستفد من التجارب الغربية وترفض اعتماد الطرق الحديثة للنهوض*.‬ لذا فإن الحلول واضحة للجميع لتجنب الانحدار، وهي* ‬التحديث القانوني* ‬والفاعلية في* ‬التنفيذ، كما احترام العقود بين الدولة والمواطن، وفيما بين المواطنين*.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.